فصل: فصل في مآل الإنسان ومصيره:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: موارد الظمآن لدروس الزمان



.فصل في مآل الإنسان ومصيره:

قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءَ: بَيْنَمَا الإِنْسَانُ فِي صِحَّتَهِ مُتَمَتِّعًا فَرِحًا بِقُوَّتِهِ وَشَبَابِهِ يَخْطُرُ لَهُ الضَّعْفُ عَلَى قَلْبِ وَلا الْمَوْتُ عَلَى بَال إِذْ هَجَمَ عَلَيْهِ الْمَرَضُ وَجَاءَ الضَّعْفُ بَعْدَ الْقُوَّةِ وَحَلَّ الْهَمُّ مِنْ نَفْسِهِ مَحَلَّ الْفَرَحِ وَالْكَدَرُ مَكَانَ الصّفَاءِ وَلَمْ يَعُدْ يُؤَنِّسُه جَلِيسٌ وَلا يُرِيحَهُ حَدِيثٌ وَلا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلا بِاللهِ الْعَلِّي الْعَظِيم قَدْ سَئِمَ وَمَلَّ مِمَّا كَانَ يَرْغَبُهُ فِي أَيَّامِ صِحَّتِهِ وَصَارَ لا يَشْتَهِي الْغِذَاء وَيَكْرَهُ تَنَاوَلَ الدَّوَاءِ عَلَى بَقَاءِ فِي لبَهِ وَصِحَّتُهُ فِي عَقْلِهِ يُفَكِّرُ فِي عُمُر أَفْنَاهِ وَشَبَابٍ أَضَاعَهُ فِي الْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ وَعِنْدَ الْمَلاهيِ والْمُنْكَرَاتِ.
وَيَتَذَكَّرُ أَمْوالاً جَمَعَها وَدُورًا بَنَاهَا وَقُصُورًا شَيَّدَهَا وَضِيَاعًا جَدَّ وَكَدَّ فِي حِيَازَتِهَا وَيَتَأَلَّمُ لِدُنْيَا فَارَقَها وَيَتْرُكُ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا يَخَافُ عَلَيْهِمْ الضَّيَاعَ مِنْ بَعْدِهِ مَعَ اشْتِغَالِ نَفْسِهِ بِمَرَضِهِ وَآلامِهِ وَتَعَلُّقِ قَلْبِهِ بِمَا يُعَجِّلُ شِفَاءَهُ وَلَكِنْ مَا الْحِيلَةُ إِذَا اسْتَفْحَلَ الدَّاءُ وَلَمْ يُفِدِ الدَّوَاءُ وَحَارَ الطَّبِيبُ وَيَئِسَ الْحَبِيبُ: {وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ}.
عِنْدَ هَذَا يَسْتَشْعِرُ النَّدَمَ عَلَى مَا مَضَى وَيَحُسُّ بِعَوَاقِبِ التَّفْرِيطِ وَالإِهْمَالِ وَقَدْ تَغَيَّرَ لَوْنَهُ وَغَارَتْ عَيْنَاهُ وَمَالَ عُنُقُهُ وَأَنْفُهُ وَذَهَبَ حُسْنُهُ وَجَمَالُهُ وَخَرِسَ لِسَانُهُ وَصَارَ بَيْنَ أَهْلِهِ وَأَصْدِقَائِهِ يَنْظُر وَلا يَفْعَلَ وَيَسْمَعُ وَلا يَنْطِق يُقَلِّبُ بَصَرَهُ فِيمَنْ حَوْلَهُ مِنْ أَوْلادِهِ وَأَهْلِهِ وَإِخْوَتِهِ وَأَقَارِبِهِ وَأَحْبَابِهِ وَجِيرَانِهِ يَنْظُرُونَ مَا يُقَاسِيهِ مِنْ كَرْبٍ وَشِدَّةٍ وَلَكِنَّهُمْ عَنْ إنْقَاذِهِ أَوْ تَخْفِيفِ كَرْبِهِ عَاجِزُون.
أَحَاطَتْ بِهِ أَحْزَانُهُ وَهُمُومُهُ ** وَأَبْلَسَ لَمَّا أَعْجَزَتْهُ الْمَقَادِرُ

فَلَيْسَ لَهُ مِنْ كُرْبَةِ الْمَوْتِ فَارِجٌ ** وَلَيْسَ لَهُ مِمَّا يُحَاذِرُ نَاصِرُ

وَقَدْ جَشَأْتَ خَوْفَ الْمَنِيَّةِ نَفْسُهُ ** تُرَدِّدُهَا مِنْهُ اللَّهَا وَالْحَنَاجِرُ

فَكَمْ مُوجِعٌ يَبْكِي عَلَيْهِ مُفْجَعٌ ** وَمُسْتَنْجِدٌ صَبْرًا وَمَا هُوَ صَابِرُ

وَمُسْتَرْجِعٍ دَاعٍ لَهُ اللهَ مُخْلِصًا ** يعِدِّدُ مِنْهُ كُلَّ مَا هُوَ ذَاكِرُ

وَكَمْ شَامِتٍ مُسْتَبْشِرٍ بِوَفَاتِهِ ** وَعَمَّا قَلِيلٍ لِلَّذِي صَارَ صَائِرُ

وَحَلَّ أَحَبُّ الْقَوْمِ كَانَ بِقُرْبِهِ ** يَحُثُّ عَلَى تَجْهِيزِهِ وَيُبَادِرُ

وَشَمَّرَ مَنْ قَدْ أَحْضَرُوهُ لِغَسْلِهِ ** وَوُجِّهَ لَمَّا فَاضَ لِلْقَبْرِ حَافِرُ

وَكُفِّنَ فِي ثَوْبَيْنِ وَاجْتَمَعُوا لَهُ ** مُشَيّعَهُ إِخْوَانُهُ وَالْعَشَائِرُ

فَلَوْ أَبْصَرَتْ عَيْنَاكَ أَوْلادَهُ الَّذِي ** عَلَى فَقْدِهِ مِنْهُمْ قُلُوبٌ تَفَطَّرُ

لَعَايَنْتَ مِنْ قبحِ الْمَنِيَّةِ مَنْظرًا ** يُهَالُ لِمَرْآهُ وَيَرْتَاعُ نَاظِرُ

أَكَابِرُ أَوْلادٍ يَهِيجُ اكْتِئَآبُهُم ** إِذَا مَا تَنَاسَوْهُ الْبَنُونَ الأَصَاغِرُ

وَرَبَّةُ نِسْوَانٍ عَلَيْهِ جَوَازِعٌ ** مَدَامِعُهُمْ فَوْقَ الْخُدُودِ غَوَازِرُ

ثَوَى مُفْرَدًا فِي لَحْدِهِ وَتَوَزَّعَتْ ** مَوَارِيثَهُ أَوْلاده وَالأَصَاهِرُ

وَأَحْنُوا إلى أَمْوَالِهِ يَقْسِمُونَهَا ** فَلا حَامِدٌ مِنْهُمْ عَلَيْهَا وَشَاكِرُ

فَيَا عَامِرَ الدُّنْيَا وَيَا سَاعِيًا لَهَا ** وَيَا آمِنًا مِمَّا تَدُورُ الدَّوَائِرُ

سَتَلْقَى الَّذِي لاقَى عَلَى الرَّغْمِ آنِفًا ** فَخُذْ أَهُبَةً وَاحْرِصْ فَمَا لَكَ عَاذِرُ

وَبَعْدَ أَنْ كَانُوا يُحِبُّونَ حَيَاتَهُ وَبَقَاءَهُ صَارُوا يَتَمَنَّوْنَ مَوْتَهُ وَرَاحَتَهُ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ عَمَّا قَلِيلٍ مَأْخُوذٌ مِنْ بَيْنِهِمْ حَيْثُ لا يَقْدِرُونَ عَلَى مَنْعِهِ وَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدِّ رُوحِِهِ إلى بَدَنِه قَالَ تَعَالَى: {فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لَّا تُبْصِرُونَ * فَلَوْلَا إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}.
ثُمَّ لاَ يَزَالُ يُعَالجُ سَكَرَاتِ الْمَوْتِ وَشَدَائِدَه وَيَشْتَدُّ بِهِ النَّزْع وَجَعَلَ يُتَابعُ نَفَسَه وَاخْتَلَّ نَبْضُه وَتَعَطَّلَ سَمْعُه وَبَصَرُه كَمَا تَعَطَّلَ قَبْلَ ذَلِكَ لِسَانُه حَتَّى إذَا جَاءَ الأَجلْ وَنَفَذَ الْقَضَاءُ وَفَاضَتْ رُوحُهُ إلَى السَّمَاء صَارَ جُثَّةً هَامدَةً وَجيفَةًً بَيْنَ أَهْلِهِ وَعَشِيرَتِه قَدْ اسْتَوْحَشُوا مِنْ جَانِبِهْ وَتَبَاعَدُوا وَمَاتَ اسْمُهُ الَّذِي كَانُوا يَعْرَفُونَهُ كَمَا مَاتَ شَخْصُهُ الّذِيِ كَانُوا يَأنَسُونَ بِهِ وأصْبَحُوا يَقُولُونَ الْمَيْتُ بَعْدَ أَنْ كَانَوا يُنَادُونَهُ بِاسْمِهِ حَيًا.
فَإنا لله وَإَنَّا إلَيْهِ رَاجِعُون ثُمَّ أَخَذَ الْغَاسِلُ فَجَرَّدَهُ مِنْ ثِيَابِه وَصَارَ يُقَلَّبُهُ عُرْيَانًا وَيَضَعُ يَدَهُ عَلَى سَوْأتِه وَعَوْرَتِهِ وَقَدْ كَانَ يَسْتَحِي وَيَخْجَلُ مِنْهُ حَالَ حَيَاتِه. ثُمَّ أُدْرِجَ في أَكْفَانِهِ كَمَا يُدْرَجُ اْلمتَاعُ في لِفَافِتِه وَبَعْدَ الصَّلاَةِ عَلَيْهِ يَحْمِلُونَهُ إلى حُفْرَةٍ عَمِيْقَةٍ ضَيّقَةٍ مُوْحِشَةٍ وَيَتْرُكوُنَهُ وَحِيدًا لاَ أنِيسَ وَلا رَفِيقَ إلا عَمَلُه انْتَهَى وَوُجِدَ مَكْتُوبًا عَلى قَبْرِه:
فَأمْسَوْا رَمِيمًا في التُّرابِ وَعُطلّتْ ** مَجَالِسُهُمْ مِنْهُمْ وأخليْ الْمَقاصِرُ

وَحَلُّوا بِدَارٍ لاَ تَزَاوُرَ بَيْنَهُمْ ** وَأَنَّى لسُكَّانِ الْقُبَورِ التَّزَاوُرُ

فَمَا أَنْ تَرَى إِلا قُبُورًا ثَوَوْا بِهَا ** مُسَطَّحَةً تَسْفِي عَلَيْهَا الأَعَاصِرُ

فَمَا صَرَفَتْ كَفَّ الْمَنِيَّةِ إِذْ أَتَتْ ** مُبَادَرَةٌ تَهْوِي إِلَيْهَا الذَّخَائِرُ

وَلا دَفَعَتْ عَنْهُ الْحُصُونَ الَّتِي بَنَى ** وَحَفَّتْ بِهَا أَنْهَارُهُ وَالدَّسَاكِرُ

وَلا قَارَعَتْ عَنْهُ الْمَنِيَّةَ حِيلَةٌ ** وَلا طَمِعَتْ فِي الذَّبِّ عَنْهَا الْعَسَاكِرُ

أَتَاهُ مِنَ الْجَبَّارِ مَالا يَرُدُّهُ ** وَأَمْرٌ قَضَاهُ اللهُ لابد صَائِرُ

مَلِيكٌ عَزِيزٌ لا يُرَدُّ قَضَاؤُهُ ** حَكِيمٌ عَلِيمٌ نَافِدُ الأَمْرِ قَاهِرُ

عَنَى كُلُّ ذِي لِعِزَّةِ وَجْهِهِ ** فَكَمْ مِنْ عَزِيزٍ لِلْمُهَيْمِنِ صَاغِرُ

لَقَدْ خَضَعْتَ وَاسْتَسْلَمَتْ وَتَضَاءَلَتْ ** لِعِزَّةِ ذِي الْعَرْشِ الْمُلُوكُ الْجَبَابِرُ

وَقَفَ بَعْضُ السَّلَفِ عَلَى إِنْسَانٍ شَدِيدِ الْحُزْنِ فَقَالَ: مِنْ أَيِّ شَيْءٍ أَنْتَ مَحْزُون؟ قَالَ: لأَنِّي أُصِبْتُ فِي نَفْسِي وَذَلِكَ أَنِّي قَتَلْتُهَا بِالذُّنُوبِ فَأَنَا حَزِينٌ عَلَيْهَا ثُمَّ أَسْبَلَ دَمْعَهُ فَقَالَ لَهُ: مَا يُبْكِيكَ الآن؟ قَالَ: ذَكَرْتُ يَوْمًا مَضَى مِنْ أَجَلِي لَمْ يَحْسُنْ فِيهِ عَمَلِي فَبُكَائِي لِقِلَّةِ الزَّادِ وَبُعْدِ الْمَفَازَة وَعَقَبَةٌ لابد لِي مِنْ صُعُودِهَا ثُمَّ لا أَدْرِي أَيْنَ يُهْبَطُ بِي إِلى الْجَنَّةِ أَمْ إلى النَّارِ ثُمَّ أَنْشَدَ:
يَا رَاكِبًا يَطْوِي مَسَافَة عُمْرِهِ ** باللهِ هَلْ تَدْرِي مَكَانَ نُزُولِكَا

شَمِّرْ وَقُمْ مِنْ قَبْلِ حَظِّكَ فِي الثَّرَى ** في حُفْرَةِ تَبْلَى بِطُولِ حُلُولِكَا

- وَوُجِدَ مَكْتُوبًا عَلَى قَبْر-
ذَهَبَ الأَحِبَّةُ بَعْدَ طُولِ تَزَاوُرِ ** وَنَأَى الْمَزَارُ وَأَسْلَمُوكَ وَأَقْشَعُوا

تَرَكُوكَ أَوْحَشَ مَا تَكُونَ بِقَفْرَةٍ ** لَمْ يُؤْنِسُوكَ وَكُرْبَةٍ مَا نَفَسُوا

وَقَضَى الْقَضَاءُ وَصِرْتَ صَاحِبَ حُفْرَةٍ ** عَنْكَ الأَحِبَّةُ أَعْرَضُوا وَتَصَدَّعُوا

آخر:
إِنَّ الْمَسَأةَ لِلْمَسَرَّةِ مَوْعِدٌ ** أُخْتَانَ رَهْنٌ لِلْعَشِيَّةِ أَوْ غَدِ

فَإِذَا سَمِعْتَ بِهَالِكِ فَتَيَقنَنْ ** أَنَّ السَّبِيلَ سَبِيلُه فَتَزَوَّدِ

آخر:
قِفْ بِالْقُبُورِ وَقُلْ عَلَى سَاحَتِهَا ** مَنْ مِنْكُمْ الْمَغْمُورُ فِي ظُلُمَاتِهَا

وَمَنِ الْمُكَرَّمُ مِنْكُمْ فِي قَعْرِهَا ** قَدْ ذَاقَ بَرْدَ الأَمْنِ مِنْ رَوَعَاتِهَا

لَوْ جَاوَبُوكَ لأَخَبْرَوُكَ بِأَلْسُن ** تَصِفُ الْحَقَائِقَ بَعْدُ مِنْ حَالاتِهَا

أَمَّا الْمُطِيعُ فَنَازِلٌ في رَوْضَةٍ ** يُفْضِي إلى مَا شَاءَ مِنْ دَوْحَاتِهَا

وَالْمُجْرِمُ الطَّاغِي بِهَا مُتَقَلِّبٌ ** فِي حُفْرَةٍ يَأْوِي إلى حَيَاتِهَا

وَعَقَارِبٌ تَسْعَى إِلَيْهِ فَرُوحُهُ ** فِي شِدَّةِ التَّعْذِيبِ مِنْ لَدَغَاتِهَا

آخر:
إِنَّ الْحَبِيبَ مِنَ الأَحْبَاب مُخْتَلَسُ ** لا يَمْنَعُ المَوْتَ بَوَّابٌ وَلا حَرَسُ

فَكَيْفَ تَفْرَحُ بِالدُّنْيَا وَلَذَّتِهَا ** يَا مَنْ يُعَدُّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ وَالنَّفَسُ

أَصْبَحْتَ يَا غَافِلاً فِي النَّقْصِ مُنْغَمِسًا ** وَأَنْتَ دَهْرُكَ في اللَّذَّاتِ مُنْغَمِسُ

لا يَرْحَمُ الْمَوْتَ ذَا جَهْل لِغِرّتِهِ ** وَلا الَّذِي كَانَ مِنْهُ الْعِلْمُ يُقْتَبَسُ

آخر:
بَيْنَا الشَّفِيقُ عَلَى إلِفٍ يُسَرُّ بِهِ ** إِذْ صَارَ أَغْمَضَهُ يَوْمًا وَسَجَّاهُ

يَبْكِي عَلَيْهِ قَلِيلاً ثُمَّ يُخْرِجُهُ ** فَيُمْكِنُ الأَرْض مِنْهُ ثُمّ يَنْسَاهُ

وَكُلُّ ذِي أَجَلٍ يَوْمًا سَيَبْلُغُهُ ** وَكُلُّ ذِي عَمَل يَوْمًا سَيَلْقَاهُ

آخر:
كَمْ أَخْرَسَ الْمَوْتُ فِي قَبْر وَقَفْتَ بِهِ ** عَن الْجَوَابِ لِسَانًا مَا بِهِ خَرَسُ

قَدْ كَانَ قَصْرُكَ مَعْمُورًا لَهُ شَرَفُ ** فَقَبْرُكَ الْيَوْمَ فِي الأَجْدَاثِ مُنْدَرِسُ

هَذِهِ الأَبْيَاتُ كُتِبَتْ عَلَى قُبُورٍ للاعْتِبَار فَالْبَصِيرِ هُوَ الَّذِي يَنْظُرُ إلى قَبْر غَيْرِهِ فَيَرَى مَكَانَهُ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ فَيَسْتَعِدّ لِلحُوقِ بِهِمْ وَيَعْلَمُ أنَّهُمْ لا يَبْرَحُونَ مِنْ مَكَانِهِمْ حَتَّى يَلْحَقَ بِهِمْ وَلْيَتَحَقَّقْ أَنَّهُ لَوْ عُرِضَ عَلَيْهِمْ يَوْمٌ مِنْ أَيَّامِ عُمُرِهِ الَّذِي هُوَ مَضَيّعٌ لَهُ لَكَانَ ذَلِكَ الْيَوْمُ أَحَبُّ إِلَيْهِمْ مِنَ الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهَا لأَنَّهُمْ عَرَفُوا قَدْرَ الأَعْمَارِ وَالأَعْمَال وَانْكَشَفَتْ لَهُمْ حَقَائِقَ الأُمُورِ وَإِنَّمَا حَسْرتَهُمْ عَلَى يَوْمٍ مِن الْعُمُر لِيَتَدَارَكَ الْمُقَصِّرُ بِهِ تَقْصِيرُهُ فَيَتَخَلَّصَ مِنَ الْعِقَابِ وَلْيَسْتَزِيدَ الْمُوفَّقُ بِهِ رُتْبَةً فَيَضَاعَفُ لَهُ الثَّوَاب.
لا يَحْقِر الرَّجُلُ اللَّبِيبُ دَقِيقَةٍ ** فِي السَّهْوِ فِيهَا لِلْوَضِيعِ مَعَاذِرُ

فَكَبَائِرُ الرَّجُلِ الصَّغِيرِ صَغِيرَةٌ ** وَصَغَائِرُ الرَّجُلِ الْكَبِيرِ كَبَائِرُ

آخر:
يَا رَبِّ مَا لِي غَيْرَ لُطْفِكَ مَلْجَأَ ** وَلَعَلَّنِي عَن بَابِهِ لا أُطْرَدُ

يَا رَبُّ هَبْ لِي تَوْبَةً أَقْضِي بِهَا ** دِينًا عَليَّ بِهِ جَلالُكَ يَشْهَدُ

أَنْتَ الْخَبِيرُ بِحَالِ عَبْدِكَ إِنَّهُ ** بِسَلاسِلِ الْوِزْرِ الثَّقِيلِ مُقَيَّدُ

أَسَفًا عَلَى عُمْرِي الَّذِي ضَيَّعْتُهُ ** تَحَتْ الذُّنُوبِ وَأَنْتَ فَوْقِي تَرْصُدُ

يَا رَبِّ قَدْ ثَقُلَتْ عَليَّ كَبَائِرُ ** بِإِزَاءِ عَيْنِي لَمْ تَزَلْ تَتَرَدَّدُ

يَا رَبِّ إِنْ أَبْعَدتُ عَنْكَ فَإِنَّ لِي ** طَمَعًا بِرَحْمَتِكَ الَّتِي لا تُبْعِدُ

أَنْتَ الْمُجِيبُ لِكُلِّ دَاعٍ يَلْتَجِي ** أَنْتَ الْمُجِيرُ لِكُلِّ مَنْ يَسْتَنْجِدُ

مِنْ أَيِّ بَحْرٍ غَيْرَ بَحْرِكَ نَسَتَقِي ** وَلأَيِّ بَابٍ غَيْرَ بَابِكَ نَقْصُدُ

واللهُ أَعْلَمُ. وَصَلى اللهُ عَلى مُحَمَّدٍ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمْ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «مَا مِنْ أَحَدٍ يَمُوتُ إِلا نَدِم: إِنْ كَانَ مُحْسِنًا نَدِمَ أَنْ لا يَكُونَ ازْدَادَ، وَإِنْ كَانَ مُسِيئًا نَدِمَ أَنْ لا يَكُونَ نَزَعَ». فَإِنَّهُمْ إِنَّمَا عَرَفُوا قَدْرَ الْعُمُرِ بَعْدَ انْقِطَاعِهِ فَحَسْرَتُهُمْ عَلَى سَاعَةٍ مِنَ الْحَيَاةِ وَأَنْتَ أَيُّهَا الْحَيُّ قَادِرٌ عَلَى تِلْكَ السَّاعَةِ وَرُبَّمَا أَقْدَرَكَ اللهُ عَلَى أَمْثَالِهَا.
ثُمَّ أَنْتَ مُضَيِّع لِلْوَقْتِ وَقَاتِلُ لَهُ فِيمَا لا فَائِدَةَ فِيهِ أَوْ فِيمَا مَضَرَّةٌ عَلَيْكَ فَوَطِّنْ نَفْسَكَ عَلَى النَّدَمِ وَالتَّحَسُّرِ وَالتَّلَهُّفِ عَلَى تَضْيِيعِ الْوَقْتِ عِنْدَ خُرُوجِ الأَمْرِ مِنْ اخْتَارِكَ وَعَدَمِ تَمْكِنِكَ مِن الْعَمَلِ الصَّالِح.
وَاذْكُرُ قَوْلَ اللهِ جَلَّ وَعَلا: {أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ} الآيَات وَقَوْلُهُ عَزَّ مِنْ قَائِلِ: {وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ} وَقَوْلُهُ تَعَالى: {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} وَقَوْلُهُ تَعَالى: {هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ} الآيَةُ وَقَوْلُهُ: {وَاتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ}.
وَنَحْوَ هَذِهِ الآيَاتِ الَّتِي هِيَ بِالْحَقِيقَةِ لِمَنْ تَدَبَّرَهَا أَبْلَغُ مِنَ السِّيَاطِ، فِي الْحَثِّ عَلَى التَّزَوّدِ لِلْمَعَادِ وَصِيَانَةِ الْوَقْتِ وَصَرْفِهِ فِيمَا يُقَرّبُ إلى اللهِ جَلَّ وَعَلا.
وَقَالَ الشيخ سعدُ بنُ عتيق رحمه الله تعالى ناظمًا المفاتيح التي ذكرها ابنُ القيم رحمه اللهُ تعالى في كتابِهِ حادِي الأرواح.
حَمِدتُ الَّذِي يولِي الْجَمِيلَ وَيَنْعِمُ ** لَهُ الْفَضْلُ يُؤْتِي مَنْ يَشَاءُ وَيُكْرِمُ

وَأَزْكَى صَلاةِ اللهِ ثُمَّ سَلامُهُ ** عَلَى خَيْرِ مَخْلُوقٍ عَلَيْهِ يُسَلَّمُ

مُحَمَّدٍ الْهَادِي وَأَصْحَابِهِ الأُولَى ** بِحُسْنِ اجْتِهَادٍ عُلِّمُوا وَتَعَلَّمُوا

وَبَعْدُ فَقَدْ عَنَّ الْوَفَاءُ لِسَائِلٍ ** بِوَعْدِي إِيَّاهُ بِأَنِّي أَنْظِمُ

مَفَاتِيحَ كَانَتْ لِلشُّرُورِ وَضِدِّهَا ** فَقَدْ فَازَ مَن بِالْخَيْرِ وَالشَّرِّ يَعْلَمُ

وَأَضْحَى بِمَا يَدْرِي مِن الْحَقِّ عَامِلاً ** فَكُنْ عَامِلاً بِالْعِلْمِ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ

وَقَدْ جَعَلَ الْمَوْلى لَهُنَّ مَفَاتِحًا ** تَنَالَ بِهَا وَاللهُ بِالْحَقِّ أَعْلَمُ

فَمِفْتَاحُ شَرْعِيّ الصَّلاةِ طُهُورُنَا ** وَيَفْتَحُ حَجًا مُحَرِّمٌ حِينَ يُحْرِمُ

وَبِالصِّدْقِ فَتْحُ الْبِرِّ وَالْعِلْمُ فَتْجهُ ** بِحُسْنِ سُؤَالٍ عَنْ فَتَىً يَتَعَلَّمُ

وَمُسْتَحْسِنِ الإِصْغَاءِ وَالنَّصْرُ فَتْحُهُ ** مَعَ الظَّفَرِ الْمَحْمُودِ بِالصَّبْرِ فَاعْلَمُوا

وَتَوْحِيدُنَا للهِ مِفْتَاحُ جَنَّةِ النَّـ ** عِيمِ فَبِالتَّوْحِيدِ دِينُوا تَنَعَّمُوا

وَبِالشُّكْرِ لِلنَّعْمَاءِ فَتْحُ زِيَادَةٍ ** وَيَحْصُلُ حُبٌّ وَالْوِلايَةُ تُغْنَمُ

بِمفْتَاحِهِ الذِّكْرُ الشَّرِيفُ وَذُو التُّقَى ** يَنَالُ بِتَقْوَاهُ الْفَلاحَ وَيُكْرَمُ

وَمِفْتَاحُ تَوْفِيقِ الْفَتَى صِدْقُ رَغْبَةٍ ** وَرَهْبَتِهِ ثُمَّ الدُّعَاءُ الْمُكَرَّمُ

لَدَى الله مِفْتَاحُ الإِجَابَةِ وَاعْلَمَنْ ** بِأَنَّ جَمِيلَ الزُّهْدِ لِلْعَبْدِ مَغْنَمُ

وَيُفْتَحُ لِلْعَبْدِ التَّجَلِّي بِرَغْبَةٍ ** بِدَارِ الْبَقَاءِ فَازْهَدْ لَعَلَّكَ تَغْنَمُ

وَمِفْتَاحُ إِيمَانِ الْعِبَادِ تَفَكُّرٌ ** بِمَا كَانَ رَبُّ الْعَالَمِينَ دَعَاهُمُ

إِلى نَظَرٍ فِيهِ وَأَنْ يَتَفَكَّرُوا ** بِهِ وَدُخُولُ الْعَبْدِ ذَاكَ الْمُفَخَّمُ

عَلَى رَبِّهِ مِفْتَاحُ ذَاكَ سَلامَةٌ ** وَإِسْلامُ قَلْبٍ لِلإلَهِ فَأَسْلِمُوا

وَمَعَ ذَاكَ إِخْلاصٌ بِحُبِّ وَبُغْضِهِ ** وَفِعْلٍ وَتَرْكٍ كُلُّ ذَلِكَ يَلْزَمُ

وَيُحْيِي قُلُوبَ الْعَارِفِينَ تَضَرُّعٌ ** بِأَوْقَاتِ أَسْحَارٍ فَكُنْ أَنْتَ مِنْهُمُ

كَذَا الْوَحْيُ إِذْ يُتْلَى بِحُسْنِ تَدَبُّرِ ** وَتَرْكُ الذُّنُوبِ فَهِيَ لِلْقَلْبِ تُؤْلِمُ

وَإِحْسَانُ عَبْدٍ فِي عِبَادَةِ رَبِّهِ ** وَنَفْعُ الْعِبَادِ وَالْقِيَامُ عَلَيْهِمُ

لإِصْلاحِهِمْ مِفْتَاحُ تَحْصِيلِ رَحْمَةِ الْـ ** إلهِ فَلازِمْ ذَا لَعَلَّكَ تُرْحَمُ

وَمِفْتَاحُ رِزْقِ الْعَبْدِ سَعْيٌ مَعَ التُّقَى ** وَكَثْرَةُ الاسْتِغْفَارِ إِذْ هُوَ مُجْرِمُ

وَمِفْتَاحُ عِزِّ الْعَبْدِ طَاعَةُ رَبِّهِ ** وَطَاعَةُ خَيْرِ الْمُرْسَلِينَ فَعَظِّمُوا

وَمِفْتَاحُ الاسْتِعْدَادِ مِنْكَ لِمَا لَهُ ** تَصِيرُ مِن الدَّارِ الَّتِي هِيَ أَعْظَمُ

هَوُ الْقَصْرُ لِلآمَالِ وَالْخَيْرُ كُلُّهُ ** فَمِفْتَاحُهُ رَغْبٌ مِن الْعَبْدِ يُعْلَمُ

بِمَوْلاهُ وَالدَّارِ الَّتِي بَعْدَ هَذِهِ ** وَمِفْتَاحُ كُلِّ الشَّرِّ إِنْ كُنْتَ تَفْهَمُ

إِطَالَتُكَ الآمَالَ فَاحْذَرْ غُرُورَهَا ** وَحُبُّكَ لِلدُّنْيَا الَّتِي تَتَصَرَّمُ

وَمِفْتَاحُ نَارِ الْخُلْدِ شِرْكٌ بِرَبِّنَا ** وَكِبْرُ الْفَتَى فَالْكِبْرُ حُوبٌ مُعَظَّمُ

وَإِعْرَاضُه عَمَّا عَنِ اللهِ قَدْ أَتَى ** بِهِ الْمُصْطَفَى الْهَادِي النَّبِيُّ الْمُكَرَّمُ

وَغَفْلَتُهُ عَنْ ذِكْرِهِ وَقِيَامِهِ ** بِحَقِّ لِذِي الْعَرْشِ الْمَلِيكِ يُحَتَّمُ

وَمِفْتَاحُ إِثْمٍ يُوبِقُ الْعَبْدَ مُسْكِرٌ ** مِن الْخَمْرِ فَاحْذَرْهَا لَعَلَّكَ تَسْلَمُ

وَمِفْتَاحُ ذِي الْمَقْتِ الزِّنَا سَيْءُ الْغِنَا ** وَذَلِكَ قُرْآنُ اللَّعِينِ وَمَأْثَمُ

وَإِطْلاقُ طَرْفِ الشَّخْصِ مِفْتَاحُ عِشْقِهِ ** لِمُسْتَحْسِنِ الأَشْبَاحِ فَهُوَ مُحَرَّمُ

وَبِالْكَسَلِ الْمَذْمُومِ مَعَ رَاحَةِ الْفَتَى ** يَخِيبُ وَكُلُّ الْخَيْرِ لا شَكَّ يُحْرَمُ

وَمِفْتَاحُ كُفْرَانِ الْفَتَى وَبَرِيدُهُ ** مَعَاصِيهِ وَالْعَاصِي قَرِيبًا سَيَنْدَمُ

وَبَابُ نِفَاقِ الْعَبْدِ يَفْتَحُهُ إِذَا ** يَكُونُ كَذُوبًا وَالْكَذُوبُ مُذَمَّمُ

وَشُحُّ الْفَتَى وَالْحِرْصُ مِفْتَاحُ بُخْلِهِ ** وَمِفْتَاحُ أَخْذِ الْمَالِ مِنْ حَيْثُ يُعْلَمُ

بَأَنْ لَيْسَ حِلاً مَعْ قَطِيعَةِ رَحْمِهِ ** وَكُلُّ ابْتِدَاعٍ فِي الْخَلِيقَةِ يُعْلَمُ

فَمِفْتَاحُهُ الإِعْرَاضُ عَمَّا أَتَى بِهِ ** نَبِيُّ الْهُدَى مِنْ سُنَّةٍ نَتَعَلَّمُ

وَاخْتِمْ قَوْلِي فِي الْقَرِيضِ بَأَنَّنِي ** أُصلِّي عَلَى خَيْرِ الْوَرَى وَأُسَلِّمُ

وَآلِ مَعَ الصَّحْبِ الْكِرَامِ الَّذِينَ هُمْ ** لِمُقْتَبِسٍ عِلْمَ الشَّرِيعَةِ أَنْجُمُ

وَاللهُ أَعْلَمُ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَسَلَّمَ.